كيف تنجز مهامك رغم سوء مزاجك؟

٦ يوليو ٢٠٢٥
متجر لباب
كيف تنجز مهامك رغم سوء مزاجك؟

في معترك الحياة اليومية، يقف الإنسان أمام تحدٍّ خفيٍ يحول دون تحقيق إنجازاته، ألا وهو الحالة المزاجية المتقلبة. فكم من مهمة تأجلت انتظارًا للحظة الحماس المثالية، وكم من فرصة ضاعت بسبب الاعتماد على الرغبة كمحركٍ وحيدٍ للإنتاجية. إن الاعتماد على المشاعر في الإنجاز يشبه حركة الريشة في الهواء، تتقاذفها رياح الحماس والفتور يمنةً ويسرة.

إن الحقيقة الجوهرية هي أنَّ الأشخاص المنتجين لا يملكون مزاجًا أفضل من غيرهم، بل يملكون أدوات وطرائق تمكنهم من التحرك والإنجاز رغم تقلبات النفس ومزاجها.



لماذا تؤثر حالتنا المزاجية على القدرة على الإنجاز والتركيز؟

إن تأثير الحالة المزاجية على الإنتاجية ليس مجرد وهم أو ضعف في الإرادة، بل هو حقيقة علمية راسخة لها جذور عميقة في طبيعة الدماغ البشري وآليات عمله. فعندما نشعر بالحماس والسعادة، يزداد إفراز الدوبامين والسيروتونين في الدماغ، وهما الناقلان العصبيان المسؤولان عن الشعور بالدافعية والتركيز. هذا الارتفاع في مستوى هذين الناقلين يجعل الدماغ أكثر قدرة على معالجة المعلومات واتخاذ القرارات والتركيز على المهام المطلوبة.


في المقابل، عندما نشعر بالحزن أو الإحباط أو التوتر، ينخفض مستوى الدوبامين ويرتفع هرمون الكورتيزول الذي يُفرز استجابة للضغط النفسي. هذا التغيير الكيميائي يضعف قدرة الدماغ على التركيز ويجعل البدء في المهام أمرًا شاقًّا، كما يقلل من قدرتنا على الاستمرار في الأعمال التي تتطلب جهدًا ذهنيًّا.


كما أن الحالة المزاجية تؤثر على ما يُسمى بـ "الوظائف التنفيذية" في الدماغ، وهي مجموعة من العمليات المعرفية التي تشمل التخطيط وتنظيم الأولويات والتحكم في الانتباه ومقاومة الإلهاء. فعندما نكون في حالة مزاجية سيئة، تصبح هذه الوظائف أقل كفاءة، مما يجعلنا أكثر عرضة للتشتت والتأجيل.


إضافة إلى ذلك، تؤثر الحالة المزاجية على تفسيرنا للمهام وتوقعاتنا حولها. ففي حالة المزاج السيء، نميل إلى رؤية المهام كأعباء ثقيلة ومملة، بينما في حالة المزاج الجيد نراها كفرص للنمو والإنجاز. هذا التفسير المختلف يخلق حلقة مفرغة، حيث يزيد المزاج السيء من صعوبة المهام، مما يعزز المزاج السيء أكثر.


لماذا الاعتماد على الرغبة وحدها لا يكفي؟

الرغبة والحماس مثل الوقود الذي يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة أيضًا، فهي تتأثر بعوامل كثيرة خارجة عن سيطرتنا كالطقس والأحداث اليومية والحالة الصحية وحتى ما نتناوله من طعام. إن الاعتماد على هذا المحرك المتقلب يجعلنا رهائن لظروف متغيرة، حيث نعمل بكفاءة عالية في أيام معدودة ونتوقف تمامًا في أيام أخرى. هذا التذبذب يخلق نمطًا غير مستقر من الإنتاجية، مما يجعل تحقيق الأهداف طويلة المدى أمرًا شبه مستحيل. كما أن الاعتماد على الرغبة يولد ضغطًا نفسيًّا إضافيًّا، حيث نشعر بالذنب عندما لا نجد في أنفسنا الحماس الكافي للعمل. الحقيقة أن الإنجاز المستدام يتطلب نظامًا وانضباطًا يعملان حتى في غياب الدافعية، مثل العضلات التي تحتاج إلى تدريب منتظم لتصبح قوية، وليس إلى انفعالات عاطفية مؤقتة.



عمق التربية الإسلامية في إيقاد الدافعية للعمل


تقدم التربية الإسلامية منهجًا عميقًا لإيقاد الدافعية من خلال ربط العمل بمعنى أسمى يتجاوز المنفعة الآنية، فالعمل في الإسلام عبادة ووسيلة لنيل رضا الله وخدمة الخلق، مما يجعل أي عمل مهما كان بسيطًا مصدرًا للأجر والثواب. كما تؤكد التربية الإسلامية على مبدأ الاستخلاف في الأرض، حيث يشعر المسلم بأنه مؤتمن على إعمار الأرض بالأعمال الصالحة اللازمة والمتعدِّية، فيدرك أن العمل أمانة ائتمنه الله عليها، وهو مسؤول عنها.

وتعزز هذه التربية الدافعية طويلة المدى من خلال الإيمان بالجزاء الإلهي العادل، حيث ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾، فيدرك المؤمن أن كل جهد يبذله محفوظ عند الله العليم ولن يضيع، مما يمنحه قوة داخلية تتجاوز تقلبات المزاج والظروف الخارجية.

كما أنَّ الإسلام يرفع الأعباء عن الإنسان بالتأكيد على ضعفه وقلة حيلته، ويذكره بأن له ربًّا قوي متين؛ يعينه إن لجأ إليه، ويجعل قوته في استمدادها منه، فلا يشعر مع ضعفه بالوحدة، بل تملأه السكينة إذ ركن بحمله إلى ركن شديد.




خطوات عملية للتغلب على الحالة المزاجية والانطلاق نحو الإنجاز


- الاستعانة بالله والحوقلة


إن أول خطوة للتغلب على فتور الهمة والحالة المزاجية السيئة هي الاستعانة بالله عز وجل، فهو القادر على تيسير الأمور وتسهيل الصعاب. والحوقلة بقول "لا حول ولا قوة إلا بالله" وهي تتضمن الإقرار بأن لا قدرة للإنسان على تحريك شيء أو تغييره إلا بإذن الله ومعونته، وفي هذا الإقرار راحة نفسية عظيمة تحرر الإنسان من عبء الاعتماد على قوته الذاتية المحدودة. فعندما نبدأ مهامنا بالاستعانة بالله والحوقلة، نضع أنفسنا في حالة من التوكل والطمأنينة تجعلنا أكثر استعدادًا للعمل والإنجاز.


- التمارين الخفيفة لتحسين المزاج


للنشاط البدني تأثير مباشر وسريع على الحالة المزاجية، حيث تحفز التمارين الخفيفة إفراز هرمونات السعادة مثل الإندورفين والسيروتونين. يكفي قضاء عشر دقائق في المشي السريع أو أداء بعض تمارين التمدد أو الحركات البسيطة في المكان = لملاحظة تحسن واضح في المزاج والطاقة. هذه التمارين تنشط الدورة الدموية وتحفز الدماغ.


- سجل الإنجاز وفائدته في رفع المعنويات


إن توثيق الإنجازات في سجل خاصٍّ له تأثير نفسي قوي في رفع المعنويات. فبه نخلق دليلاً ملموسًا على قدرتنا على التقدم. وهذا الدليل يصبح مصدر قوة بعد الله في الأوقات الصعبة. كما أن مراجعة هذا السجل تذكرنا بأن الطريق نحو الهدف هو مجموعة من الخطوات الصغيرة المتراكمة، وأن كل خطوة لها قيمتها وأهميتها، وأننا في الطريق.


الحديث الإيجابي عن الذات والرفع من قيمتها


إن الطريقة التي نتحدث بها مع أنفسنا تشكل واقعنا النفسي وتؤثر على أدائنا بشكل كبير. بدلاً من انتقاد الذات والتركيز على النواقص، يجب أن نتعلم التحدث مع أنفسنا بما يذكرنا بقيمتها عند الله، وكفى بهذا كرامة لها. وأن كل إنجاز سابق فضل من الله علينا يتودد به إلينا، وأن كل إخفاق يذكرنا بحاجتنا إليه، فإن أحسنا الرجوع إلى الله ازددنا كرامة وأُمدُننا توفيقًا منه.


- تطبيع الحالة المزاجية السيئة كجزء من التجربة الإنسانية

من المهم أن ندرك أن الحالة المزاجية السيئة هي جزء طبيعي من التجربة الإنسانية يمر بها جميع من نجحوا في إنجاز المشاريع الكبرى. حتى أعظم المبدعين والقادة يواجهون أيامًا يشعرون فيها بالفتور وعدم الرغبة في العمل. الفرق بينهم وبين غيرهم ليس في غياب هذه المشاعر، بل في قدرتهم على المضي قدمًا رغم وجودها، وتوطين النفس على المضي أمامًا بأقصى ما يمكن.


- تحديد أولى الأولويات


عندما نشعر بعدم الرغبة في العمل، تبدو جميع المهام متشابهة في صعوبتها وأهميتها، لذلك من الضروري تحديد المهمة الواحدة الأكثر أهمية والتركيز عليها فقط. هذا التركيز يقلل من الشعور بالإرهاق ويوجه طاقتنا المحدودة نحو ما يحقق أكبر فائدة. اختيار مهمة واحدة فقط يجعل البداية أسهل ويخلق شعورًا بالوضوح والتحديد بدلاً من التشتت والضياع.


- البدء بدقائق يسيرة


إن أصعب جزء في أي مهمة هو البداية، لذلك من الحكمة أن نلتزم بالعمل لفترة قصيرة جدًا كخمس أو عشر دقائق فقط. هذا الالتزام البسيط يكسر حاجز المقاومة النفسية ويخلق زخمًا إيجابيًّا، وفي كثير من الأحيان نجد أنفسنا نواصل العمل حتى بعد انتهاء الوقت المحدد لأن البداية هي الجزء الأصعب. هذه التقنية تعتمد على مبدأ أن الجسم الساكن يحتاج إلى طاقة أكبر للحركة، بينما الجسم المتحرك يميل للاستمرار في الحركة.


- تهيئة البيئة

إن تغيير البيئة المحيطة له تأثير إيجابي كبير على الحالة المزاجية والطاقة الذهنية. المشي في الهواء الطلق يجدد الأكسجين في الدماغ ويحفز الإبداع، كما أن ترتيب مكان العمل وتنظيفه يخلق شعورًا بالسيطرة والوضوح الذهني. يمكن ربط هذه الأنشطة بأشياء ممتعة كشرب القهوة.


- عدم الإنجاز يزيد من سوء الحالة المزاجية


من المهم أن نذكر أنفسنا بأن تأجيل المهام وعدم إنجازها لا يحسن من حالتنا المزاجية، بل يزيدها سوءًا على المدى الطويل. فالتأجيل يخلق دورة من القلق والشعور بالذنب وانخفاض تقدير الذات، مما يجعل البدء في المهام أصعب في المرات القادمة. في المقابل، إنجاز أي مهمة صغيرة يولد شعورًا بالإنجاز والكفاءة يحسن من الحالة المزاجية ويزيد من تقدير الذات، مما يخلق دورة إيجابية تغذي نفسها وتقوي عزيمتنا للمضي قدمًا.


يقول البلاغي الدكتور محمد أبو موسى: «عليك أن تنجز أجلَّ الأعمال في أسوأ الأزمان؛ لأن أسوأ الأزمان لن تتغيَّر إلا إذا أنجزت فيها أحسن الأعمال، ولأن الزمن السيئ لو جعلك سيئًا فسوف يستمرُّ السوء، اقطع نِياط الزمن السيئ بأن تنجز فيه أعمالاً كريمة.. لا تَعِشْ تبكي على الأطلال؛ لأن الذين بكوا على الأطلال ماتوا وبقيت الأطلال أطلالاً.. دموع البكاء على الأطلال لم تُحْيِ طللاً، وإنما العزيمة الحذَّاء هي التي تُغيِّر، ليس البكاء ولا الشكوى ولا النُّواح، وإنما الحَزْم القاطع، والعَزْم القاطع، والإنجاز القاطع.. نحن تعلَّمْنا الشعر، ولكن بقيتْ مثلُ هذه الأشياء النافعة أعلِّمها لطلابي».



ختامًا: وطِّن نفسك أن الأعمال الكبيرة تتطلب صبرًا أكبر، وبذلاً أكثر، وإصرارًا أعظم.

ولو كان الأمر سهلاً لكان الكل في القمة والقاع خالٍ!

لولا المشقة لساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتَّال